إن المتتبع للحياة السياسية الموريتانية منذو إطلاق التعددية الحزبية التي تضمنها دستور 1991م، يلاحظ دون كبير عناء أن ظاهرة الشرائحية أصبحت ظاهرة بارزة تتجذر شيئا فشيئا كما أنها أصبحت مطية سهلة لأصحاب المصالح الشخصية الضيقة والنزعات الشعوبية.
- وبما أن مشكل الهوية كان إحدى العقبات التي واهجت جيل التأسيس(1960 ), الذين استطاعوا تجاوزه بحنكة سياسية دون تقديم حل واضح يقنع كافة الأطراف، فإن ذلك الإشكال ظل يطفوا على السطح كلما كانت هناك توترات سياسية مثل محاولة انقلاب 1989 على أساس عرقي وبروز ظاهرة الشعوبية مع بداية القرن 21م، إلا أنها أصبحت اليوم متجاوزة على الأقل من حيث البرامج والاهداف لدى المشتغلين بالعمل السياسي المنظم(الأحزاب).
- ولكي نكون منصفين لابد من إلقاء نظرة على تجربة بعض التيارات الفكرية السياسية التي خاضت تجربة معينة أو قدمت نفسها للشارع السياسي الموريتاني من خلال البرامج الانتخابية المحلية أو المشاريع الفكرية الكبرى كالتيارين البعثي والناصري والتيار الافرنكفوني(الزنجي أساسا) ثم أخيرا التيار الإخواني كممثل للاسلام السياسي...
- وبادئ ذي بدء يمكن القول أن التجربة البعثية كانت أكثر هذه التجارب السياسية نجاعة حيث استطاعت توحيد غالبية الشعبية الموريتاني والمتمثلة في العرب(البظان البيض والسمر) تحت مشروع سياسي معين استطاع الكثيرين إيجاد ذواتهم من خلاله بغض النظر عن لون بشرتهم وقدموا من خلاله الكثير للوطن كما استطاعوا من خلاله ترسيخ الهوية العربية للدولة، إلا أن تجربتهم بعد 1989 كانت الأقرب للإقصائية والانتقائية منها للمشروع الوطني الجامع.
- حيث تم تكريس نظرة التخوين والنظر بالريبة لابناء الوطن من فئة الزنوج واقصائهم في بعض الأحيان لولى تجذر التيار الافرنكفوني في مفاصيل الدولة الموريتانية الذي حافظ لهم(الزنوج) على وجود معين يوصف احيانا بالقوي داخل الدوائر الادارية.
أما التيار الناصري فكان تأثيره أقل من سابقيه ولم يحظى بما حظي به البعثيين من فرص؛ في حين كان التيار الافرنكفوني(الزنجي) أكثر تماشيا مع الحياة السياسية حيث كان يتكيف مع كل حقبة من الحقب ليخرج منها بأقل الخسائر وإن كانت أحداث 1989 مثلت ضربة قوية بالنسبة له.
- وقد كانت مرحلة التسعينات(1990... ) مرحلة بروز التيار الاسلامي، الذي وصل لمرحلة النضج وخرج من طور العمل السري إلى الظهور العلني المنظم، إلا أن مراجعات سياسية لبعض قادته البارزين جعلت الكثيرين منهم يلتحقون بركب السلطة نتيجة لمغريات المناصب والمصالح الاقتصادية أساسا....
هذا وكان تأسيس حزب تواصل الاخواني 2007م بداية لأبرز تجارب الاسلام السياسي في هذه البلاد، حيث استطاع هذا الحزب تقديم نفسه كممثل وحيد للاسلام السياسي الراديكالي دون منازع وحافظ على مستوى معين من التمثيل المحلي والبرلماني وإن أخفق في الوصول إلى نسبة مؤثرة في أكثر من مرة بالاضافة لفشله المتكرر في الانتخابات الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية..
- وبما أن الشارئحية هي موضوعنا الأساسي الذي نود إلقاء الضوء عليه من خلال هذا المقال، فإن المتتبع لعمل حزب تواصل يلاحظ فشله في تقمص الشخصية التي روج لها وهي أنه هو المشروع الجامع الذي ستذوب فيه كل الفوارق الاجتماعية والاختلالات الفئوية والشرائحية انطلاقا من كونه يستمد فكره من الشريعة الاسلامية نهجا وممارسة، حيث بدى الفرق واضحا بين الممارسة السياسية للحزب في الواقع والقناع الذي يخرجه التواصليون للعالم الخارجي.
- فعلى الرغم من محاولة تواصل استغلال كل الأحداث ذات البعد الشرائحي أو العرقي لصالحه وتسجيل موقف معين منها حتى وإن لم يكن ذلك الموقف يتماشى مع المصلحة العليا للبلد، مثل الاحتجات التي قام بها أهل الضفة ضد النظام الجديد للحالة المدنية(الوثائق المؤمنة 2010) وحادثة محرقة كتب الفقه المالكي، فإن حزب تواصل يقدم نفسه في الخفاء على أنه الحاضنة السياسية لفئة الزوايا أو الطلبه بتعبير آخر ونجح في استقطاب البعض على هذا الأساس وخاصة من الشباب اليافعين ليتسنى له تكوينهم على منهجه السياسي والفكري (الاخواني)، كما أنه يروج في الأوساط العامية أنه يدافع عن حقوقهم(أي الزوايا) الثقافية في موريتانيا وقد عبر عن ذلك مفكر التيار الاخواني محمدالمختار الشنقيطي صراحة على الهواء عبر قناة الجزيرة حين شبه تواصل بالحزب الجمهوري الأمريكي الذي يستمد شعبيته في أمريكا من المتدينين(المحافظين) والمواظبين على الصلاة في الكنائس.
وهذه أمثلة على ما كنت قد ذهبت إليه بخصوص تواصل والفئوية:
-المثال الأول: الكل يدرك أن محمدجميل منصور أحد مؤسسي هذا التيار البارزين وأكثرهم تضحية في سبيله وقد استطاع فرض حضوره رغم ماكان يلاقيه من الأنظمة السياسية السابقة من جهة ومضايقات داخلية من قادة الحزب أنفسهم من جهة ثانية تمثلت في التخوين ووسمه بالعمالة بالاضافة لبعض الاساءات الي كان يرددها أنصار الحزب في الخفاء من قبيل أنه ليس بن حسب أو نسب كما يقولون، هذا فضلا عن كون اخواله من فئة المغضوب عليهم تواصليا(إيكاون)......
وقد قالها أمامي كثيرون من ناشطي تواصل صراحة أيام كنت أحد منتسبي الحزب، بقولهم أنهم يؤمنون بمشروع تواصل بينما يعترضون على قيادة جميل منصور، ويقولون أنهم يفضلون عليه محمدغلام رغم اعترافهم بفارق القوة القيادية والأداء السياسي بين الرجلين.
- المثال الثاني: الناظر إلى الترشحات التي أصبح يقدمها الحزب مؤخرا لأي استحقاق وطني أو لانتخاب هيئاته القيادية سيلاحظ اعتماده على اللون والعرق أكثر منه على الكفائة وذلك بغية إبراز إشراك مزيف لكافة الشرائع لايمت للواقع بصلة، مع أن برنامج الحزب ومبادئه المعلنة تقول أن التمثيل يجب أن يعتمد فقط على الكفائة والحضور السياسي.
- المثال الثالث: كلنا يذكر الزخم وحجم التعبئة التي حظيت بها الانتخابات المحلية والنيابية السابقة( سبتمبر 2018 ) في بعض المناطق المحسوبه على تواصل كعرفات والنسبة الكبيرة التي استطاعوا الحصول عليها في الاستحقاقات البلدية بتلك الدائرة وغيرها من المناطق المحسوبة عليهم، لكن عندما قرر الحزب دعم مرشحا للرئاسيات من خارج فئة الزوايا التي يرتكز عليها الحزب هو سيدمحمد ولد بوبكر، غابت عنه كل تلك الأصوات في عرفات وغيرها من المناطق المحسوبة على تواصل، وذهبت لصالح الخصم في الناحية الأخرى، حيث غالبا مايطغى الحانب الروحي على الجوانب الأخرى عند ناخبي الحزب، وهو نفس الشيء الذي حدث مع مرشح الحزب صالح ولد حننه 2007 الذي لم تصوت له النسبة التي صوتت للاصلاحين الوسطين(تواصل لاحقا) في الانتخابات البلدية والنابية حينها.
- المثال الرابع: ايضا وخلال الانتخابات البلدية والجهوية والنيابية الماضية(سبتمر 2018 ) وبينما كنت أصلي بأحد مساجد حي الترحيل الشعبي بالعاصمة، وقف الإمام بعد الصلاة داعيا المصلين إلى التصويت لحزب المسلمين كما وصفه(وذكر حزب تواصل بالاسم) قائلا نحن الزوايا يجب ان نحافظ على التصويت لحزبنا لأنه الوحيد من يمثلنا من بين هذه الاحزاب.
ورغم تودد الحزب لفئة الزوايا التقليدية فإنها كانت حسب مراقبين أكثر المتضررين منه ومن مشروعه المغاير للمنظومة المذهبية والعقدية(المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية) في البلاد، مما حدى بالمشايخ والصلحاء من هذه الفئة أن يقفوا في وجه المد الإخواني عامة وتواصل منه على وجه الخصوص معلنين مقارعته بالحجة وضحد افتراءاته ومقارعته بالبرهان والدليل.
- وانطلاقا من كل ماسبق فإن كل محاولات حزب تواصل بأن يكون التيار الجامع لكافة الفئات الاجتماعية والشرائح الموريتانية عن طريق ركوب موج التوترات الاجتماعية، باءت بالفشل حيث يقتصر تمثيله حاليا على التيار الظاهري من فئة الزوايا والرافضين للتيار التصوفي بشكل عام مع استقطابه لتيارات واسعة من التيار التكفيري السلفي(سابقا) الذي حمل السلاح على الدولة في بعض المراحل، وأكبر دليل على ذلك هو غياب ألوان الطيف الاجتماعي عن غالبية النشاطات السياسية للحزب وطغيان لون واحد على الحضور لتلك النشاطات هو فضلا عن كون بعض قادة الحزب كأحمد وديعة مثلا لا ينفكون يحرضون على الكراهية بين مكونات الشعب مستغلين كل شاردة وواردة في سبيل تفكيك عرى الوحدة الوطنية وتمزيق النسيج الاجتماعي.
- كما أن دور تواصل في تغذية الشرائحية والشحن الفئوي كان حاسما وأسرع بكثير من أي دعوة عنصرية أو فئوية أخرى مهما كانت قوة القوى الخارجية التي تقف وراءها نتيجة لتوظيفه(اي تواصل) للدين ومؤسساته(المساجد)، في العملية السياسية وتلك هي النتيجة الحتمية لهذا الاستخدام المغشوش للدين واستغلال عواطف المتدينين بالاضافة لمبدأ الاقصاء الذي يظهر بجلاء في كل التجارب الاخوانية في العالم العربي وليست تجربة إخوان موريتانيا الاقصائية عنا ببعيد.
ولذلك فإن محاربة الشرائحية وظاهرة الشعوبية تمر من بوابة إخوان موريتانيا والوقوف في وجه ابراكماتيتهم السياسية التي قد كانت مطية لكثير من صغار العقول والأهداف الخبيثة التي تستهدف النسيج المجتمعي وتفكيك عرى الوحدة الوطنية.
كامل الود
إضافة تعليق جديد